بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله بيته الطيبين الطاهرين ، وصحبه أجمعين
قال تعالى :
﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ (4)﴾.
( سورة الفتح)
فلا سعادة بلا سكينة ، ولا سكينة بلا إيمان ، سكينة النفس هي الينبوع الأول للسعادة ، والسلامة والسعادة مطلبان ثابتان في كل إنسان في أي زمان ومكان ، لأن الله عز وجل يعطي الصحة ، والذكاء ، والمال ، والجمال ، والقوة ، للكثيرين من خَلقه ، ولكنه يعطي السكينة بقدر لأصفيائه المؤمنين ، السكينة هي السمة الأولى للمؤمن ، هذه السكينة تزدهر بغير عون من المال ، بل بغير مدد من الصحة ، يسعد بها الإنسان ، ولو فَقَدَ كلَّ شيء ، ويشقى بفقدها ، ولو ملَك كل شيء ، هذه السكينة ليست مِلْك أحد ، فيمسكها أو يرسلها ، ولكنها في متناول كل واحد من البشر إذا هو دفع ثمنها.
إن للسكينة مصدراً واحداً لا ثاني له هو الإيمان بالله ، الذي يحمل على طاعته ، والإيمان باليوم الآخر الذي يمنعك أن تؤذي مخلوقاً ، هذا الإيمان العميق ، الذي لا يكدره شك، ولا يفسده نفاق ، ثم العمل بمقتضى هذا الإيمان ، لقد علمتنا الحياة أن أكثر الناس قلقاً ، وضيقاً ، واضطراباً ، وشعوراً بالتفاهة والضياع هم المحرومون من نعمة الإيمان ، وبرد اليقين .
إن هذه السكينة نفحة من السماء ينزلها الله على قلوب المؤمنين من أهل الأرض ليثبتوا إذا اضطرب الناس ، ليرضوا إذا سخط الناس ، ليوقنوا إذا شكّ الناس ، ليصبروا إذا جزع الناس ، ليحلُموا إذا طاش الناس ، هذه السكينة نور من الله وروح منه ، يسكن إليها الخائف ، يطمئن عندها القلِق ، ويتسلى بها الحزين ، يستروح بها المتعب ، يقوى بها الضعيف ، يهتدي به الحيران ، هذه السكينة نافذة على الجنة يفتحها الله للمؤمنين من عباده ، وفي رمضان ، منها تهب عليهم نسماتها ، وتشرق عليهم أنوارها ، ويفوح شذاها وعطرها ، ليذيقهم الله جزاء ما قدموا من خير ، ويريهم نموذجاً لما ينتظرهم من نعيم مقيم .
في الدنيا جنة من لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة ، يقول بعض العلماء : ماذا يفعل أعدائي بي ؟ بستاني في صدري ، إن أبعدوني فإبعادي سياحة ، وإن حبسوني فحبسي خلوة ، وإن قتلوني فقتلي شهادة ، فماذا يفعل أعدائي بي ؟
السكينة هي الأمن ، والإيمان، و الروح ، والريحان، إنها جنة القرب ، إنها جنة السكينة ، إنها جنة رمضان :
﴿ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) ﴾
( سورة محمد)
أي في الدنيا .
ما مِن نعمة تُحجب معها السكينة إلا وتنقلب بذاتها إلى نقمة ، النعمة بلا سكينة نقمة ، وما من محنة تحفها السكينة إلا وتكون هي بذاتها نعمة ، المحنة مع السكينة نعمة ، والنعمة من دون سكينة نقمة ، ينام الإنسان على الشوك مع السكينة ، فإذا هو مهاد وثير ، وينام على الحرير ، وقد أمسكت عنه السكينة ، فإذا هو شوك القتاد ، يعالج المرء أعسر الأمور ومعه السكينة فإذا هي هوادة ويسر ، ويعالج أيسر الأمور ، وقد تخلت عنه السكينة ، فإذا هي مشقَّة وعسر ، ويخوض المخاوف والأخطار ومعه السكينة ، فإذا هي أمنٌ وسلام ، ويعبر المناهج والسبل ، وقد أمسكت عنه السكينة ، فإذا هي مهلكةٌ وبوار ، هذه السكينة لا تعز على طالب كائناً من كان ، في أي زمان ومكان، وهي متاحة لكل إنسان ، وفي أي حال ومآل ، وجدها إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام في النار :
﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ .
( سورة الأنبياء )
وجدها يوسفُ عليه الصلاة والسلام في الجُبِّ ، وجدها يونس عليه الصلاة والسلام في بطن الحوت ، وجدها موسى عليه الصلاة والسلام في اليم ، وجدها أصحاب الكهف في الكهف ، حينما افتقدوها في الدور والقصور ، وجدها نبينا عليه الصلاة والسلام وصاحبه في الغار :
(( ما ظنك باثنين الله ثالثهما)) .
[البخاري عن أنس بن مالك ]
والأعداء يتعقبونه ليقتلوه ، ويجدها المؤمن الصادق حينما يصوم رمضان كما أراد الله من الصيام وقد أوى إلى ربه ، يائساً ممن سواه ، قاصداً بابه وحده ، من دون كل الأبواب.
يبسط الله الرزق مع السكينة ، فإذا هو متاع طيبٌ ، ورخاء وفير ، وإذا هو رغد في الدنيا ، وزادٌ إلى الآخرة ، ويمسك السكينة مع الرزق ، فإذا هو مثار قلق وخوف ، إذا هو مثار حسد وبغض ، وقد يكون معه الحرمان ، ببخل أو مرض ، وقد يكون معه التلف بإفراط واستهتار ، هذا الرزق ، يمنح الله الذرية مع السكينة ، فإذا هي زينة الحياة الدنيا ، ومصدر فرح واستمتاع ، ومضاعفة للأجر في الآخرة ، بالخلف الصالح ، ويمسك السكينة مع الذرية فإذا الذرية بلاءٌ ، ونكدٌ ، وعنتٌ ، وشقاءٌ ، وسهرٌ بالليل ، وتعب بالنهار .
الصحة ؛ يهب الله الصحة والعافية مع السكينة ، فإذا هي نعمة وحياة طيبة ، ويمسك السكينة ، فإذا الصحة والعافية بلاءٌ يسلطه الله على الصحيح المعافى ، فينفق الصحة والعافية في معصية الله ، وفيما يحطم الجسم ويفسد الروح ، ويزخر السوء إلى يوم الحساب .
ويمسك السكينة فإذا الجاه والقوة مصدرا قلق فوتهما ، ومصدرا طغيان وبغيٍ ، ومصدرا حقدٍ وكراهية ، لا يقر لصاحبها قرار ، ويدخر بها للآخرة ، رصيداً ضخماً إلى النار.
أية نعمة مع السكينة لها معنى ، أية نعمة من دون سكينة لها معنى آخر ، أيها الأخوة الكرام ، أول أسباب السكينة لدى المؤمن أنه هدي إلى فطرته التي فطره الله عليها هي فطرة متسقة ، ومنسجمة ، ومتجاوبة ، مع نواميس الوجود الكبير كله ، ومع منهج خالقه العظيم ، فعاش المؤمن مع فطرته في سلام ووئام ، لا في حرب وخصام ، ومع من حوله في شفافية ومشاركة ، لا في وحشة وعداوة ، ذلك لأن في القلب شعثاً لا يلمُّه إلا الإقبال على الله شعث التفرق ، وفي القلب وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله ، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفة الله ، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه ، والفرار إليه ، وفي القلب نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضى بأمره ، ونهيه ، وقضائه ، وقدره ، والصبر على كل ذلك إلى يوم لقائه، وفي القلب فاقة لا تسدها إلا محبته، والإنابة إليه ، ودوام ذكره ، وصدق الإخلاص له .
هذا ما ينبغي أن يكون عليه مجتمعنا من سعادة ، ووئام ، وحب ، وسلام ، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون الصادقين.
اللهمّ أنت الحليم فلا تعجل، وأنت الجواد فلا تبخل،
وأنت العزيز فلا تذل، وأنت المنيع فلا تُرام، وأنت المجير فلا
تُضام ، وأنت على كل شيء قدير
والحمد لله رب العالمين